فصل: (سورة الدخان: الآيات 10- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفوائد:

1- ليلة القدر: المراد بالليلة المباركة ليلة القدر وقد اختلف فيها وفي تحديد موعدها وقيل ليلة النصف من شعبان ويمكن الرجوع في معرفتها إلى المطولات هذا ويتطلع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى ليلة القدر والاحتفال بها والحرص عليها والتعرّض لما يحتشد فيها من خير كثير وثواب كبير وليلة القدر من الشئون الدينية التي صحّ بها النص صحة لا تدع في صدر المؤمن ريبا أوحرجا وإن كان لم يرد معها ذلك السر الذي دعا المسلمين إلى تكريمها من أجله، والذي نراه أن ليلة القدر لم تكن ولن تكون بابا يفتح في السماء أونورا يملأ فضاء البيت وإنما هي مبدأ لرحمة اللّه الشاملة التي استنفذت الإنسانية كلها من ربقة الطغيان وأخذت بأيدي الحيارى إلى مسالك واضحة المعالم شريفة الغايات والأهداف يستشعرون فيها برد الطمأنينة، وراحة السكينة واسترجاع الرشد العازب، وربما كان من أجل هذه المعاني الشريفة في ليلة القدر جعل قيامها سترا للعيوب وغفرانا للذنوب فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
2- أقوال المعربين في أمرا: قال الزمخشري: {أمرا من عندنا} نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كائنا من لدنا وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا، ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق لأن معنى الأمر والفرقان واحد من حيث أنه إذا أحكم بالشيء وكتبه فقد أمر به أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه إما من ضمير الفاعل أي أنزلناه امرين أمرا أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل.
أما الشهاب السمين فقد قال فيه أوجه: أحدها أن ينتصب حالا من فاعل {أنزلناه} والثاني أنه حال من مفعوله أي أنزلناه آمرين أو مأمورا به والثالث أن يكون مفعولا له وناصبه إما {أنزلناه} وإما {منذرين} وإما {يفرق} والرابع أنه مصدر من معنى {يفرق} أي فرقا وهناك أقوال أخرى لا تخرج عن هذا النطاق.

.[سورة الدخان: الآيات 10- 16]:

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رسول مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَولوا عَنْهُ وَقالوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}.
اللغة:
{بِدُخانٍ} الدخان معروف وقال أبو عبيدة: والدخان الجدب قال القتبي: سمي دخانا ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها كالدخان وقياس جمعه في القلّة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحوغراب وأغربة وغربان وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقريبا كما شذّوا في عنان فقالوا عوانن وفي القاموس: والدخان كغراب وجبل ورمان الغبار والجمع أدخنة ودواخن ودواخين.

.الإعراب:

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} الفاء الفصيحة و{ارتقب} فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت و{يوم} مفعول به لارتقب وجملة {تأتي السماء} في محل جر بإضافة الظرف إليها وبدخان متعلقان بتأتي و{مبين} صفة لدخان وفي الدخان المذكور أقوال متشعبة يرجع إليها في مطولات كتب التفسير وملخصها: هو دخان يجيء يوم القيامة يصيب المؤمن.
{يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ} الجملة في محل جر صفة لدخان أيضا أي يشملهم ويلبسهم والناس مفعول به و{هذا} مبتدأ و{عذاب} خبر و{أليم} صفة لعذاب والجملة مقول قول محذوف وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لربك.
{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} تتمة مقولهم و{ربنا} منادى مضاف و{اكشف} فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت و{عنّا} متعلقان باكشف و{العذاب} مفعول به وإن واسمها و{مؤمنون} خبرها والجملة تعليلية للدعاء.
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رسول مُبِينٌ} {أنّى} اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الظرفية وهو في محل رفع خبر مقدم و{لهم} حال و{الذكرى} مبتدأ مؤخر، والاستفهام هنا محمول على غير حقيقته، بل المراد استبعاد أن يكون لهم الذكرى بقرينة قوله: {وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه} أي كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان وهو ما ظهر على يد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الآيات البيّنات ومن الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وأعرضوا عنه والواو حالية و{قد} حرف تحقيق و{جاءهم رسول} فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر و{مبين} صفة.
{ثُمَّ تَولوا عَنْهُ وَقالوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} {ثم} حرف عطف و{تولوا} فعل وفاعل والعطف على محذوف أي فلم يذكروا ثم تولوا و{عنه} متعلقان بتولوا {وقالوا} عطف على {تولوا} و{معلم} خبر لمبتدأ محذوف أي هو معلم بفتح اللام المشددة اسم مفعول من علم أي يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل و{مجنون} خبر ثان.
{إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ} إن واسمها و{كاشفوا} العذاب خبرها و{قليلا} ظرف زمان متعلق بكاشفوا وإن واسمها و{عائدون} خبرها.
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} {يوم} ظرف متعلق بمحذوف دلّ عليه {إنّا منتقمون} أي ننتقم واقتصر على هذا الإعراب الزمخشري وأجاز غيره أن يكون بدلا من {يوم تأتي} وقيل منصوب بإضمار اذكر وقيل بمنتقمون وردّ الزمخشري هذا الوجه بأن إن تحجب عن ذلك وجملة {نبطش} في محل جر بإضافة الظرف إليها و{البطشة} مفعول مطلق و{الكبرى} صفة وإن واسمها و{منتقمون} خبرها.

.[سورة الدخان: الآيات 17- 29]:

{ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رسول كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رسول أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جنات وعيون}.
الرهو فيه وجهان: أحدهما أنه الساكن قال الأعشى:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ** ولا الصدور على الأعجاز تتكل

أي مشيئا ساكنا على هنية، أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق فأمر بأن يتركه ساكنا على هنية قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه اللّه عليهم. والثاني أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا فقال سبحان اللّه رهو بين سنامين أي اتركه على حاله منفرجا. فهو في الأصل مصدر رها يرهو رهوا كعدا يعدو عدوا إما بمعنى سكن وإما بمعنى انفرج وانفتح.
وفي المختار: رها بين رجليه أي فتح وبابه عدا، ورها البحر سكن وبابه عدا أيضا.
{فاكِهِينَ} طيبي الأنفس أو أصحاب فاكهة كلابن وتامر وقد مرت هذه الصيغة وعبارة القاموس الفاكهة الثمر كله والفاكهاني بائعها وكخجل اكلها والفاكه صاحبها وفكههم تفكيها أطرفهم بها والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم وفكه كفرح فكها فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك أو يحدّث صحبه فيضحكهم.

.الإعراب:

{ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رسول كَرِيمٌ} كلام مستأنف مسوق للشروع في ضرب الأمثلة لهم بمن تقدمهم من الأقوام واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{فتنا} فعل ماض وفاعل و{قبلهم} ظرف متعلق بفتنا و{قوم فرعون} مفعول به، {وجاءهم}: الواو عاطفة و{جاءهم} فعل ماض ومفعول به مقدم و{رسول} فاعل و{كريم} صفة.
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رسول أَمِينٌ} {أن} يجوز أن تكون مفسّرة لأن مجيء الرسل متضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بجاءهم ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة {أدّوا إليّ} خبر و{عباد اللّه} منادى مضاف محذوف منه حرف النداء فيكون المراد بعباد اللّه القبط، واختار الزمخشري أن تكون {عباد اللّه} مفعولا به وهم بنو إسرائيل يقول أدّوهم إليّ وأرسلوهم معي ويؤيد هذا ما جاء في سورة الشعراء {فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل} وإن واسمها و{لكم} متعلقان بمحذوف حال و{رسول} خبر {إنّي} و{أمين} صفة {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} الواو عاطفة و{أن} عطف على أن الأولى ويجوز فيها من الأوجه ما جاز في الأولى و{لا} ناهيه و{تعلو} فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون و{على اللّه} متعلقان بتعلوا وإن واسمها وجملة {آتيكم} خبرها وبسلطان متعلقان بآتيكم و{مبين} صفة والجملة تعليلية للنهي لا محل لها.
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} الواو حرف عطف على بربي وإن واسمها وجملة {عذت} خبرها وربي متعلقان بعذت و{ربكم} عطف على بربي وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بعذت أي من {أن ترجمون} وياء المتكلم المحذوفة مفعول {ترجمون}. {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} الواو عاطفة و{إن} شرطية و{لم} حرف نفي وقلب وجزم و{تؤمنوا} فعل الشرط والفاء رابطة وجملة {اعتزلون} في محل جزم جواب الشرط واقترنت الجملة بالفاء وجوبا لأنها طلبية ولا ترسم الياء أيضا لأنها من آيات الزوائد.
{فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} الفاء حرف عطف والكلام معطوف على مقدّر قدّره الجلال بقوله فلم يتركوه، و(دعا ربه) فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وأن ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض أي بأن هؤلاء والجار والمجرور متعلقان بدعا وأن واسمها وخبرها و{مجرمون} صفة لقوم. {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} الفاء الفصيحة وهي الواقعة جوابا لشرط مقدّر كأنه قال: إن كان الأمر كما تقول {فأسر} و{بعبادي} متعلقان بأسر و{ليلا} ظرف زمان متعلق بأسر أيضا وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل للأمر بالإسراء وهو السير ليلا.
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} الواو عاطفة {واترك} فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت و{رهوا} حال أو مفعول به ثان لاترك وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل للأمر بالترك.
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الكلام مرتبط بمقدّر لابد منه ليلتئم نظام الكلام والتقدير فاطمأن موسى بذلك فتمّ إغراقهم، و{كم} خبرية في محل نصب مفعول به مقدّم لتركوا و{من جنات وعيون} في محل نصب على الحال.
{وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ} عطف على {جنات وعيون} والمقام الكريم يراد به مجالسهم الحافلة التي كانوا يقيمونها ومحافلهم الهانئة التي كانوا يلتفّون فيها.
{وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ} عطف أيضا وهو من عطف العام على الخاص لأن النعمة لا تشمل جميع ما تقدم وغيره مما لم يذكر وجملة {كانوا} صفة لنعمة و{فيها} متعلقان بفاكهين و{فاكهين} خبر {كانوا}.
{كَذلِكَ وأورثناها قَوْمًا آخرين} {كذلك} خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها فهي عنده في موضع المفعول المطلق وقال أبو البقاء تركا كذلك فجعله نعتا للترك المحذوف، والواو حرف عطف {وأورثناها} فعل وفاعل ومفعول به والجملة عطف على {كم تركوا} و{قوما} مفعول به ثان و{آخرين} نعت لقوما.
{فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ} الفاء عاطفة والكلام معطوف على جملة أغرقوا المقدّرة و{بكت عليهم السماء والأرض} فعل وفاعل {وما} نافية و{كانوا منظرين} كان واسمها وخبرها.

.البلاغة:

معنى بكت عليهم السماء والأرض: في قوله: {فما بكت عليهم السماء والأرض} استعارة مكنية تخييلية شبّه السماء والأرض بمن يصحّ منه الاكتراث ثم حذف المشبه به وهو من يصحّ منه الاكتراث واستعار له شيئا من لوازمه وهو البكاء والمعنى أنهم لم يكونوا يعملون عملا صالحا ينقطع بهلاكه فتبكي الأرض لأنقطاعه وتبكي السماء لأنه لم يصعد إليها شيء من ذلك العمل الصالح بعد هلاكهم وجعله بعضهم مجازا مرسلا عن الاكتراث بهلاك الهالك والعلاقة السببية، ذكر المسبب وأراد السبب فإن الاكتراث المذكور سبب يؤدي إلى البقاء عادة.
قال أبو حيان: فما بكت عليهم السماء والأرض استعارة لتحقير أمرهم وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء ويقال في التعظيم بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس وقال زيد بن مفزع:
الريح تبكي شجوها ** والبرق يلمع في غمامه

وقال جرير:
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

ولا مندوحة لنا عن أن نتناول بيت جرير بالشرح والإعراب فقد شغل النقاد كثيرا وهو من قصيدة يرثي بها عمر بن عبد العزيز وقبله:
نعى النعاة أمير المؤمنين لنا ** يا خير من حج بيت اللّه واعتمرا

حملت أمرا عظيما فاضطلعت به ** وقمت فيه بأمر اللّه يا عمرا

فالشمس طالعة (البيت) وقوله يا خير حكاية قول النعاة أي قائلين يا خير ويحتمل أنه من كلام الشاعر ففيه التفات، والنعي النداء بالموت، والأمر العظيم الخلافة ومشاقها وأعباؤها شبهها بالأمر المحسوس الذي يحمل على طريق الاستعارة المكنية والتحميل تخييل للاستعارة، وأمر اللّه شرعه، وفي هذا البيت أقوال منها أن فيه تقديما وتأخيرا وأن نجوم الليل والقمر منصوبان بكاسفة لا بقوله تبكي وتقديره ليست بكاسفة نجوم الليل ولا القمر تبكي عليك وإذا كانت غير كاسفة لغيرها من الكواكب كانت غير مضيئة فهي سوداء مظلمة والزمان كله ليل وهذا في غاية ما يكون من المبالغات في المراثي ومن أجود ما قيل في الرثاء، وطالعة خبر الشمس وليست بكاسفة خبر ثان وتبكي عليك حال أو خبر ثالث ونجوم الليل مفعول كاسفة أي لم تكسف الشمس نجوم الليل لأنطماسها وقلّة ضوئها من كثرة بكائها فلا تقدر على منع الكواكب من الظهور، ويحتمل أن نجوم الليل مفعول تبكي أي تغلب نجوم الليل في البكاء عليك وقيل روايته هكذا وهم والرواية الشمس كاسفة ليست بطالعة أي لا تطلع أبدا من حينئذ فالأوجه أن نجوم الليل مفعول تبكي وقيل ظرف له أي مدة نجوم إلخ وقيل نجوم مرفوع على الفاعلية والقمر مفعول معه، ونصب عمر مشكل لأنه علم مفرد فكان ينبغي أن يبنى على الضم وفيه وجوه منها أنه أراد يا عمر بن الخطاب أو يا عمر بن عبد العزيز والمنادى المضاف يكون منصوبا ثم قطع الإضافة لأنتهاء الوزن ومنها أنه أراد يا عمراه على الندبة وحذف الهاء كما قيل في قوله تعالى: {يا أسفا على يوسف} وقيل غير ذلك مما يطو ل فيه القول وليس بطائل.